نداء البحر (01) متى سوف تعود يا أبي؟

حكاية مغامرة وتحدي وحنين إلى أب غائب

ARANIME / BING AI ©

ينظم مركز الملاحة الوطني منافسة في سباق سفن صغيرة يتم التحكم بها عن بعد. وتقرر الفتاة (نداء) أن تشارك فيها متحدية كل الصعاب، متسلحة بحماسها وذكائها وحنينها إلى أبيها الغائب.

تزاحمت النوارس على شاطئ المدينة محاولة التقاط ما تجود به موجات المد البحري الهادئة من قواقع قابلة للأكل، قبل أن يطردها ظلام الليل نحو أوكارها. على الرصيف الحجري الممتد طويلا على جانب الساحل، جلست امرأة شابة في حوالي الـ 33 من عمرها. وإلى جوارها طفلة صغيرة في الـ 11. ومن ورائهما بدا الشارع متألقا بالأضواء والواجهات المشعة، ومليئا بالمارة والبنايات العالية.
راحت المرأة تتأمل في الأفق البعيد سفينة بدت صغيرة جدا لبعدها. ونزلت دمعات صامتة من عينيها، فمسحتها بطرف كمها ثم نظرت إلى الطفلة. كانت الصغيرة منشغلة بطي ورقة مجلة عدة مرات لتشكلها على هيئة قارب، قبل أن تنط على الرمال وتنحني لتضع قاربها برفق على صفحة المياه لتسحبه موجة الجزر ببطء. تابعته الصغيرة سعيدة بنجاحها ثم التفتت إلى المرأة وهي تهتف بمرح: أهههها .. أنظري يا ماما، سفينتي تبحر..
تأملتها الأم بنظرة طويلة وبسمة حزينة، بينما تابعت الطفلة كلامها بمرح وهي تشير للأفق: ستبحر سفينتي بعيدا، وتسبق كل السفن، وعندما تصل إلى هناك، إلى تلك البلاد البعيدة سيركبها أبي ويقودها بنفسه ثم يعود إلينا. أليس كذلـ…….
مسحت الأم دمعاتها التي انسابت من جديد، ثم نهضت ومدت يدها للطفلة وقاطعتها قائلة: لنعد إلى البيت يا نداء، لقد تأخرنا. صمتت الصغيرة ومدت يدها لأمها ثم سارتا جنبا إلى جنب. وقبل أن تبتعد، التفتت نداء إلى البحر المتألق، فبدا القارب الورقي الصغير يعود بسرعة مع موجة مد جديدة، ويستقر على الرمال كأنما يحقق لها أمنيتها. فابتسمت بسعادة، ثم استدارت كي تواصل السير بإيقاع أمها.

:: :: :: :: :: :: :: ::

سارتا معا في الشارع المزدحم المتألق لفترة. في الطريق، توقفت نداء تتأمل بناء ضخما جميل التصميم، نشرت بأعلى مدخله الواسع لافتة كبيرة مثيرة للانتباه، تتوسطها رسمة لسفينة صغيرة كتبت فوقها عبارة (مركز الملاحة الوطني) وتحتها (سباق السفن الصغيرة لموسم 2025) مع سطور توضيحية وأرقام أخرى.
بقيت نداء تتأمل اللافتة شاردة إلى أن علا صوت الأم منادية: هيا يا نداء، ماذا تفعلين عندك؟؟
فردت الصغيرة في ارتباك: لا.. لا شئ، قادمة.
وألقت نظرة أخيرة على البناء ولافتته، ثم أسرعت نحو الأم ليكملا سيرهما في اتجاه زقاق قديم حيث انعطفتا نحو ساحة ترابية محاطة ببنايات بسيطة. وعبرتا الساحة وهما تنظران إلى شلة فتيان يلعبون الكرة، وقد علت أصواتهم وتطاير الغبار حول عمود النور الذي ينير الساحة نورا خافتا لم يبدد قتامة المكان.
ارتسمت نظرة صارمة على محيا الأم وهي ترمق الفتيان وتصيح في أحدهم: مازن؟
واصل الأطفال بلا مبالاة ركضهم ولعبهم وصياحهم، فعادت تنادي بصوت أعلى: مااااااااااازن..
وتوقف الأطفال هذه المرة، والتفت أحدهم وهو يجيب بتذمر: نعم؟؟
بدا وسيما في 13 من عمره، يشبه نداء قليلا، رغم شعره المتهدل وملابسه الرثة. ورمقته الأم بصرامة أكثر وهي تهتف: هيا إلى البيت، فقد تأخر الوقت.
وبلا اهتمام، استدار مازن يواصل لعبه وهو يردد: اذهبا أنتما الآن، سألحق بكما بعد قليل.
عادت الأم تنظر بغيظ إلى الأولاد وهم يواصلون اللعب، ثم تراجعت قليلا واستندت إلى عمود النور بإحدى يديها وهمست بلهجة أقرب للبكاء: ساعدني يا إلهي…
وبينما رفعت نداء رأسها نحو الأم هامسة بحنان: ماما ؟ مسحت الأم دمعها من جديد وأمسكت يد الصغيرة، ثم تجاوزتا الساحة نحو بناية قديمة، فدفعت الباب الخشبي، ثم صعدتا عبر الدرج المظلم.

:: :: :: :: :: :: :: ::

في أعلى البناية، فتح باب البيت الصغير، ودخلت نداء ثم أمها. عبرتا الممر القصير ودخلتا بيتا بسيط الأثاث. فرش ومخدات ومنضدة لآلة خياطة في أحد الأركان، وفي الجهة المقابلة دولاب خشبي في رفوفه بعض الكتب، وباقة زهور، وإطار صورة للأسرة بوجود الأم والأب والصغيرين.
غابت الأم قليلا في الغرفة المجاورة ثم عادت وقد غيرت لباسها. شغلت جهاز راديو من طراز قديم موضوع على شرفة النافذة الفاصلة بين المطبخ وقاعة الجلوس فانبعثت منه موسيقى شجية. ثم انشغلت بغسل الخضار وهي تهتف بصوت فيه صرامة وحنان: نداء، راجعي دروسك بتركيز يا صغيرتي، فالامتحانات تقترب.
جاءها صوت نداء من الغرفة هاتفا: طبعا ماما، لا تقلقي بشأني.
كانت الصغيرة قد تمددت على بطنها وفتحت كتابها وراحت تتصفحه في صمت وكأنها تسترجع ذكرى ماضية أو تخطط لحلم آت. حتى أيقظها من شرودها فاصل نغمة الراديو الذي تغير فجأة ليبث صوت مذيع يقول:
ـ ضمن أخبار الرياضة والترفيه، ما زلنا أيها السادة نتابع جديد مسابقة السفن التي ينظمها مركز الملاحة الوطني، بهدف تشجيع شباب المدينة على الابتكار والإبداع.
أسرعت نداء تترك ما بيدها وتنهض واقفة أمام الراديو لتتابع البث باهتمام، والمذيع يواصل:
ـ إذ على كل مشارك أن يطور سفينته حتى يمكنها من تجاوز مراحل السباق والوصول إلى خط النهاية. وسيبدأ تسجيل الراغبين في المشاركة في الغد، أما السباق فلن ينطلق قبل ثلاثة أسابيع. وقد أدلى السيد عمار مدير المركز لإذاعتنا بهذا التصريح:
ـ إنه سباق لكل المبدعين وعشاق المغامرة، نرغب من خلاله في اكتشاف تقنيات جديدة في عالم الملاحة البحرية. غدا بإذن الله يبدأ تسجيل الراغبين بالمشاركة وبعد الاستعدادات والتعرف على قانون السباق…
ـ ألم تقولي إنك ستراجعين دروسك؟
قالتها الأم بنفس النبرة التي تمزج الجدية بالحنان، وهي تغلق جهاز الراديو بكبسة زر صارمة.

:: :: :: :: :: :: :: ::

صباح اليوم التالي، مشت أم نداء وحيدة في الشارع الممتد بين البنايات والسيارات والأشجار. إلى أن توقفت أمام باب منزل أنيق ومدت يدها ترن الجرس. خرجت سيدة المنزل لتكلمها: مرحبا سيدة حنان، أنجزت العمل بهذه السرعة؟؟
ـ نعم سيدتي، الثوب صار جاهزا، وأتمنى أن يروق لك. قالت الأم وقدمت لها الثوب الذي خاطته من أجلها.
فأخذت السيدة تفحصه بين يديها وتقول: أنا أثق بك يا سيدة حنان، إنه رائع، انتظريني لحظة من فضلك.
وغابت في المنزل لحظة ثم عادت وبيدها ثوب آخر قدمته للأم، ومدت يدها بورقة نقود: هذه أجرتك، وأرجو أن تخيطي لي ثوبا آخر بنفس المقاس.
ـ شكرا سيدتي، سأجهزه قريبا. وابتسمت شاكرة، ثم انطلقت تواصل سيرها على رصيف الشارع.
كانت تدس ورقة النقود التي حصلت عليها في حقيبتها الصغيرة، عندما انتبهت إلى وجود ورقة الإنذار المدرسية التي وصلت أمس عبر البريد. أخرجتها لتطالعها من جديد وهي تنعطف نحو زقاق في آخره بناية مدرسة كبيرة.
داخل مكتب الإدارة بالمدرسة، وضع المدير الوقور كوب الماء من يده بعد أن شرب قليلا ثم راح يطالع الأوراق أمامه ويرفع رأسه لينظر من وراء نظارته للمرأة الجالسة قـبـالته (أم نداء) ويقول: منذ أسبوع كامل لم يلتحق بالصف، أهو مريض؟؟
ـ مريض؟؟ لا، أعني ليس كثيرا. قالت الأم مرتجلة، ثم حاولت تخطي ارتباكها مضيفة: حسنا سيدي كيف يمكن معالجة هذا الأمر؟؟
ـ في الحقيقة ليس من عادة الإدارة التساهل في مثل هذه الحالات. عقب المدير. فحتى لو كان مريضا فقد كان يجب إخبارنا من قبل، لكن لا بأس.
ووقع على ورقة كتب عليها شيئا ما، وهو يختم كلامه: يمكنه الحضور غدا، لكني أريد أن أراه قبل دخوله الصف. ولا داعى لأن تتحملي أنت مشقة الحضور، لم لم يأت والده؟؟
ولمعت الدموع في عيني أم نداء وهي تردد بهمس حزين: والــــده؟؟

:: :: :: :: :: :: :: ::

أمام البناية العالية لمركز الملاحة الوطني، تمهلت الصغيرة نداء بانتظار الضوء الأحمر ثم عبرت الشارع الكبير أمام السيارات المتوقفة. وحين وجدت نفسها أخيرا في ساحة المركز الواسعة، توقفت لتنظر بدهشة بالغة إلى حشد كبير من الناس ازدحم أمام المبنى، وهي تهمس بذهول: أه؟؟ يا إلهي ما هذا العدد؟ لن أستطيع الدخول وسط هذا الزحام. ربما لم يكن علي أن أفكر بالمشاركة.
وتراجعت عائدة ببطء وهي تواصل: فأنا مازلت صغيرة على كل حال. وما أدراني بالسفن أو البحر. علي أن أهتم بدراستي فحسب، أما هذه المسابقات فهي للكبار فقط.
ألقت نظرة أخيرة على المركز كأنها تودعه قبل المغادرة، عندما تناهى إلى سمعها صوت طفل صغير يهتف: بـــــابـــا.. انتظرني. التفتت ترى ذلك الطفل الصغير يركض نحو والده الشاب الذي يحضنه ثم يرفعه على كتفيه ويمضيان ضاحكين. ظلت تتابعهما حتى ابتعدا ثم استدارت تنظر إلى مبنى المركز، ويدها تمسح دمعة ترقرقت بعينيها هامسة بحزم: بل سأشارك.
تقدمت من الزحام، فيما كان مكبر الصوت المثبت أعلى بوابة بناية المركز ينقل صوت مذيع يهتف بحماس:
ـ أيها السادة، أيتها السيدات، السلام عليكم ورحمة الله. مركز الملاحة الوطني يرحب بكم جميعا ويشكركم على الحضور. سنبدأ تسجيل المشاركين الآن، ادخلوا القاعة بنظام من فضلكم.