«عاقل» و «غافل» محاربان من قرطاج وقعا في أسر الرومان. لكن بدل شنقهما، أمر الإمبراطور بحبسهما في قصره، وراح يوكل إليهما أداء أصعب المهمات. فكانا دائما يؤديانها بنجاح ولكن بطريقتهما الخاصة، الخاصة جدا.
روما عام 146 قبل الميلاد / تصاعد غبار كثيف من ساحة المعركة وحجب كل شيء إلا أصوات السيوف والخيول والمتحاربين. ثم تبدد الغبار وظهر جنود روما بلباسهم الموحد، يرتدون دروعهم ويحملون رماحهم، وهم يطاردون من بقي من متمردي قرطاج المنهزمين، مجرد رجال بلباس رث وأسلحة خشبية ويقاتلون بأسلوب عفوي لأبعد حد. وفي مكان ما من هذه الخلاء الواسعة، انكمش رجلان من المتمردين مختبئين وراء صخرة عظيمة. وهذان هما عاقل وغافل. بدا الخوف جليا على غافل النحيف القصير وهو يطل بحذر من خلف الصخرة متأملا أربعة من جند الرومان يقتربون، ثم تنهد مسترخيا عندما مر الجنود جوار الصخرة دون أن ينتبهوا لهما.
فيما كان عاقل المرح السمين يلهث في تعب وقد مدد ساقيه وأسند ظهره للصخرة ثم تأمل زميله الخائف وقال في ارتياح كبير: آآآخ وأخيرا نجونا..
رمقه غافـل بنظرة حادة وقال بخفوت صارم: نجونا؟؟ تقولها بسعادة وكأنك تنام في بيتك.
نحن ما زلنا في أرض المعركة.
ـ ولكننا فعلا أحياء وما هي إلا….
ـ شششت.. أخفض صوتك يا عاقل..
ـ أههههـه.. غافل أنت ترتعد خوفا مثل فرخ بلا ريـش..
ـ ششششت سوف يكتشفون أمرنا…
ـ هههههـه لا عليك يا صاحبي، ولا داعي لكل هذا الخوف، لن يفكر أحد أننا هنا. صدقني نحن بأمان، فجند الرومان حقا أغبياء، وأنا أعرف ما أقـو… غافـل؟؟ ما بك؟ فيم تحدق هكذا… غافل؟؟
قالهـا وهو ينظر بشك إلى غافـل الذي بدا يائسا وهو يتطلع إلى ما وراء رفيقه الضخم. وبعد لحظة، التفت عاقـل وراءه، ونظـر إلى الجنـود الأربعة وهم يقفون خلفه مباشرة وينظرون إليهما في شماتـة.
:: :: :: :: :: :: :: ::
داخل عربة الأسرى، تحسس غافـل تلك السلـسلة الثقيلة التي تقيد يديـه ورجلـيه، وبدا غاضبا مغتاظا وهو ينظر إلى عاقـل المقـيد جنبه ويقـول:
ـ أرأيت أين أوصلنا غباؤك أيها الضخم؟
ـ أه؟ لـم نصل بعد إلى أي مـكـان..
ـ أنـا لا أمزح، لو لم أكن مقيـدا لرميتك أرضـا، ظللت تثرثر بلا معنى حتـى كشفتنـا.
(يقلده) هاهاها جند الرومـان أغبياء؟
ـ ما زلـت عـند رأيي، فها نحن نركب عربـة مريحة بينمـا جنـودهم يمشـون تـحت الشـمس الحـارقـة.
كان كلامه منطقيا، فصمت غافـل فـي غـيظ ودفن رأسـه بين يديه. وتأمله عاقل لحظـة:
ـ غافـل، لم أنت حزيـن ويـائس هـكذا؟ ما الأمر؟؟؟
ـ آآآخ يا وجع الرأس.. وكأنك لا تعلم، أتعـرف إلى أين تأخذنا عربتك المريحة هذه؟؟
ـ إلى رومـا؟
ـ بـل إلى حبـل الـمشنقة.
ـ آآآه؟؟؟ ولماذا، ماذا فعلنا؟
كتـم غافل غضبـه مرة أخرى، بينـما فكر عاقل قـليلا، وقـال: لـحظة، سـأبـحـث عـن تـفـسـيـر لـهذا في كـتـابي..
رغـم الـسلاسل، دس عاقـل يده في ثـنـايـا ثـوبه وأخـرج كتـابا قـديمـا حركه فـنفض عنه غبارا كـثيفـا. فـتحه وهو يسعل وراح يـتصفـحـه في صمت إلى أن هتف:
ـ وجـدتـهـا، اسمع يا غافـل ما يقول هذا الكتاب الرائع: يُعرف الرومان بالشجاعة والقسوة في الحروب، وغالبا ما يقتلون أسراهم عن طريق رميهم بالمنجنيق، أو إطعامهم للأسود الجائعة. أو بطريقة أسهل: المشنقة.
وبين غيظ غافل وسذاجة عاقل، ابتعدت العربة في الخلاء حتى توقفت في ساحة القصر في العاصمة روما.
:: :: :: :: :: :: :: ::
روما اليوم في حالة ابتهاج والجميع يحتفل بالنصر في المعركة الأخيرة. جنود يعزفون، وآخرون يؤدون التحية للإمبراطور. بدا الإمبراطور فتى ضخما واهنا غير مبال وقد جلس على عرشه على منصة عالية تطل على ساحة الاستعراض. وبجواره عرش آخر مماثل، جلست عليه امرأة تشبهه غير أنها أكبر سنا وضخامة (إنها أم الإمبراطور الوصية على العرش) وخلفهما وقف المستشار النحيف وقائد الحرس الصارم. في الساحة، تقدم قائد الجند وانحنى أمام المنصة للتحية ثم قال:
ـ مولاي إمبراطور رومـا المبجل، يسعدني أن أنقل إليكم هذه الأنباء السارة، لقد انتهت المعركة، وتم القضاء على كل المتمردين.
صفق الإمبراطور بيديه سعيدا، بينما ظلت أمه صارمة صامتة. وراح قائد الحرس والمستشار يصفقان خلفها مجاملة، ولكنهما توقفا وصمتا عندما نظرت إليهما بغضب. فيما عاد الرجل (قائد الحرس) يقول: فليأذن مولاي باستعراض الغنائم..
أشار الإمبراطور بيده موافقا، فتنحى الرجل جانبا وأشار إلى مجموعة من الجنود، فراحوا يتقدمون أمام المنصة مثنى مثنى، وكل اثنين يحملان غنيمة ما لعرضها أمام الإمبراطور، بينما كان قائد الجند يصيح مفسرا نوع الغنيمة:
ـ سيفان، رمح و6 دروع، عمود خشبي، ودلو من الصخور، ومجرفة. خيام العدو، أواني الطبخ.
(ثم تقدم جنود يحملون الأحصنة من قوائمها) والقائد يقول: 14 حصانا، وبقرة.
وأخيرا جاء الجنود الأربعة يقودون أمامهما الأسيرين عاقل وغافل.
فقال قائد الجند: وأسرى المعركة: أسير ونصف.
بدت القسوة واضحة على محيا أم الإمبراطور وهي تقول في استنكار بالغ: فقط؟؟؟
ابتلع القائد ريقه في خوف وقال: نعم، أسيران فقط، لأننا، لأننا أبدناهم جميعا يا مولاتي.
تهلل وجه الإمبراطور وقال ملتفتا إلى أمه: رائع، ماذا نفعل بهما؟
:: :: :: :: :: :: :: ::
ظل غافل صامتا ينظر بخوف إلى الساحة حيث كان مجموعة من الجنود يحاولون إعداد حبل مشنقة. سحب أحدهم طرف الحبل بقوة فانفكت العقدة، وأعاد الكرة مرات ومرات بلا جدوى، فنظر إلى زملائه طلبا للمعونة، فأمسك جندي آخر الحبل وقال بخفوت:
ـ أنا أيضا لا أعرف، لم يسبق لي أن صنعت مشنقة، لكن سأحاول.
عبث بالحبل قليلا ثم قال: أهه، نجحت، ولكن يجب أن نجربها أولا.
نظروا جميعا إلى أصغر الجنود حجما بينهم، فتراجع خائفا للوراء، لكنهم أمسكوا به، وعلقوه في الحبل. لكن العقدة سرعان ما انفكت، ووقع الجندي أرضا، فراح يتحسس عنقه في سعادة. همس أحد الجنود: ليتهم يعفون عن هذين الأسيرين، يبدوان بريئين ولا ذنب لهما.
لم يستطع عاقل كتم ضحكته، وهو يهمس لغافل: وها هو دليل آخر على أن جند الرومان أغبياء، كتيبة كاملة من الجنود، ولا يحسنون إعداد مشنقة؟؟
نقل الإمبراطور نظره بغضب وإحراج بين أمه والمستشار، وهم بقول شيئ ما..
عندما هتف عاقل: أيأذن لي مولاي؟؟
ـ ماذا؟؟ قال الامبراطور مستغربا جرأة الاسير على مكالمته.
ـ أرى ألا أحد هنا يحسن إعداد مشنقة.
ـ وهل تعرف أنت؟؟؟ سأله الامبراطور فأجاب: بالطبع أعرف.
سار عاقل نحو العارضة الخشبية، وبسرعة لف الحبل وصنع المشنقة بطريقة متقنة وجذب الحبل بيده يتأكد من متانته، ثم عاد إلى مكانه بفخر. نظر إليه الإمبراطور وأمه بإعجاب، ثم تركز نظر الإمبراطور على غافل وهو يردد:
ـ أحسنت أيها الأسير لقد قمت بعمل جيد. والآن عليك أن تجربها.
امتقع وجه غافل خوفا وجحظت عيناه، فأسرع ينظر إلى عاقل في استعطاف، فابتسم له عاقل هامسا:
ـ لا عليك، اطمئن. ثم رفع رأسه مخاطبا الإمبراطور بكل ثقة:
ـ بالطبع يا مولاي يجب أن نجربها، لكننا نحتاج إلى……
نقل بطء وصمت نظره بين الإمبراطور وأمه وقائد الحرس. ثم تركز نظره على المستشار النحيف الطويل فتأمله مليا ثم أضاف:
ـ نحتاج شخصا أطول قليلا.
ظهر الخوف جليا على وجه المستشار عندما التفت الإمبراطور نحوه، فأسرع يحرك يديه أمام وجهه مرددا بخوف:
ـ مولاي؟؟ لا، أنا لست……
ـ هيا كن رجلا، لن تضيرك التجربة أيها المستشار.
ـ مولاي؟ ذاك هو الأسير هو الذي يجب أن يشنق.
ـ أووووه؟ ألم تسمع ما قال، أنت الأنسب لأنك أطول.
ـ مولاي؟؟؟ استعطفه المستشار وهو يكاد يبكي، لكن الامبراطور شجعه: هيا هيا، إنها مجرد تجربة.
ضحك غافل في خفوت وهو ينظر إلى المستشار المغتاظ يمشي أمام عاقل الذي يقوده نحو المشنقة، ثم يعلقه فيها ويقف ممسكا به كالحارس ينتظر إذن الإمبراطور.
كان المستشار في أقصى حالات الغضب يقول هامسا:
ـ أتظن نفسك خفيف الظل أيها الضخم، أقسم أني سأعلقك في هذا الحبل قريبا.
وتلك لن تكون مجرد تجربة، ستكون مشنقة.
ـ حقا؟ مثل هذه؟؟ قالها عاقل وهو يرخي يديه المحيطتين بالمستشار الذي انزلق إلى الأسفل قليلا فجحظت عيناه وتأوه بألم. فيما كان الإمبراطور يتابع ما يجري ويسأل:
ـ هذه هي المشنقة؟؟ تبدو مثل أرجوحة الأطفال، مجرد لعبة.
اقترب غافل من المنصة ورفع نظره ناحية الإمبراطور، قائـلا:
ـ تماما يا مولاي إمبراطور روما، لكن اللعبة لم تبدأ بعد.
ـ أه؟؟ لم يفهم الامبراطور قصده، فشرح له: نحن ننتظر أمر التنفيذ.
ـ وكيف؟؟ تساءل مجددا. فقال غافل وهو يرفع يده مشيرا بإبهـامه لأسفل: هكذاااا !!
ضحك الإمبراطور قائلا: فقط؟ الأمر بسيط.
رأى عاقل الإمبراطور يشير بإبهام يده لأسفل إشارة التنفيذ، فترك جسد المستشار يتأرجح تحت الحبل، وجحظت عيناه في ألم أشد. لكن عاقل عاد يرفعه وينزله عن الحبل.
فسار المستشار يتحسس عنقه ويسعل بشدة غير مصدق نجاته، فقال له الإمبراطور:
ـ أرأيت أيها المستشار؟ كانت مجرد تجربة.
ـ نعم يا مولاي، هذه مشنقة سليمة، فلنحتفل بشنقهما معا.
تقدم حارسان قويان فقادا الأسيرين نحو المشنقة، وقد بدت عليهما المفاجأة والخوف، فهمس غافل بغيظ:
ـ أرأيت نتائج فعلك يا كبير الجسم قليل العقل، أهلكتنا بغبائك.
ـ ماذا فعلت أنا؟؟
ـ ومن صنع تلك المشنقة؟؟
ـ أه؟ كنت أحاول المساعدة فحسب، ولم أعلم أن الرومان ناكري الجميل أيضا.
انحنى المستشار نحو الإمبراطور في مكر وشماتة قائلا: فليعلن مولاي بدء مراسيم الشنق.
رفع الإمبراطور يده ليشير بإبهامه إشارة التنفيذ، لكنه تمهل ثم توقف وفكر قليلا، فقال المستشار:
ـ ما الأمر يا مولاي؟؟
ـ هل سيموتان؟؟ سأل الامبراطور بنبرة فيها قليل من الإشفاق.
ـ بالطبع يا مولاي، المشنقة متقنة، وستقضي عليهما حالا.
ـ ولكنني سأفتقدهما. إنهما يروقان لي، أرأيتم كيف ساعدانا؟؟ من العار أن نقتلهما إذن.
ـ ولكن؟ ولكنهما متمردان يا مولاي. قال المستشار الذي كان يمني نفسه بتعليقهما بنفسه.
ـ لن أشنقهما، هذان الرجلان سيبقيان ضيفين لدينا في روما. خذوهما إلى السجن.