السهم الأزرق : لحظة هدوء من فضلكم !

كرات ومضارب وهتاف في الملاعب يدعونا للنزال

ARANIME / BING AI ©

بعدما تمكن سليم بفضل قوته وذكائه وحبه لرياضة التنس من الانضمام إلى أقوى فريق في المدينة، يكتشف فجأة أنه يلعب في الضفة الخطأ فيؤسس فريقا جديدا ليعلن تحدي الكبار.

الفصل الأول : كـرة صفـراء تـلاحـقـنـي

لفّت الشمس آخر خيوطها الشاحبة، فاكتست غيوم السماء لونا برتقاليا جميلا انعكس على صفحة البحر فأضفى عليها ألقا ساحرا، زاد من روعة منظر شاطئ المدينة الهادئ. هناك، كان يجلس وحيدا، على صخرة سوداء كبيرة من تلك الصخور التي تفصل الموج عن الرمال. البحر يمتد خلفه بلا نهاية، وهبات رياح المساء العابرة تحرك رداءه وخصلات شعره السوداء. فتى في حوالي الـ 20 من عمره، بدت حاله بسيطة جدا، بردائه غير الأنيق وشعره المنسدل وذقنه النابتة التي أضفت على وجهه مسحة حزن أخفت وسامته.
بنظرة فارغة، كان يتابع من بقي من زوار الشاطئ هنا وهناك، أناس يمشون أو يلاعبون أطفالهم وحيواناتهم الأليفة. وفجأة انتبه من شروده عندما تدحرجت على الرمال أمامه كرة صفراء صغيرة. توقفت تماما بالقرب منه، فانحنى يحملها بيده. رفع رأسه والتفت حوله ليرى تلك الآنسة. كانت فتاة رشيقة بلباس رياضي أنيق، تحمل بيمناها مضرب تـنـس للمحترفين وتقف حافية وسط الرمال في مواجهته تماما. أدار الكرة الصغيرة بأصابعه لوهلة، بينما وقفت الفتاة تحدق إليه في ترقب وانتظار. وبحركة هادئة، رمى الكرة بيمناه إلى الأعلى وانتظرها حتى هوت نحو رأسه، فرفع يسراه يضرب بها الكرة وكأنما يمسك مضربا يجيد استخدامه. وطارت الكرة نحو الفتاة فأمسكتها بيدها وابتسمت هامسة: شكرا لك.
ثم علا من خلفها صوت رجل يقول: ميرال ! هيا يا صغيرتي فلنعد إلى البيت، لقد تدربتِ اليوم بما يكفي.
التفتت الفتاة تنظر إلى رجل بدا في الخمسين من عمره، معتدل القوام رياضي البنية.
ـ حسنا يا أبي. سارت قليلا ثم توقفت واستدارت نحو الفتى، وسددت الكرة بمضربها نحوه هاتفة: يمكنك أن تحتفظ بها، أههه.
وركضت كغزال جميل تنضم إلى أبيها فأحاطها بذراعه ثم سارا على الرمال نحو امرأة شابة جالسة على فرش خفيف بجوار سيارة سوداء فارهة. ابتسمت المرأة بحنان وهي تقدم لهما المناشف وثمار الموز.
استقرت الكرة الصفراء الصغيرة من جديد بيد الفتى، فنظر إليها طويلا في صمت، رأى على فروها الناعم توقيعا كخربشة سوداء تشبه رسمة سهم مارق. وعاد يرفع رأسه متأملا الأمواج الصاخبة والشمس المائلة للمغيب.
تناهى إلى سمعه هدير مكتوم فالتفت يرى تلك السيارة السوداء وهي تغادر تاركة آثارا واضحة على الرمال. تابعها حتى اختفت فعاد لصمته وشروده. بدا تائها في عالم بعيد، وكأنه يحاول أن يستعيد ذكريات تلاشت في أعماقه، لكنها ترفض أن تعود. دس الكرة الصغيرة في جيب سترته، ثم نهض متمشيا على الرمال دون أن يبالي بالرذاذ الذي تطاير عليه إثر موجة مد طردت آخر نوارس الشاطئ. فسار مبتعدا تعبث الريح بشعره حتى غاب في ظلمة المساء.

:: :: :: :: :: :: :: ::

بددت أضواء الشارع ظلمة المساء، فبدا الفتى يسير بخطوات رتيبة غير مبال بالعابرين حوله. وتردد صوت أجش يهتف: سليم، هلا أعنتني على حمل هذه الأكياس؟؟
ـ أه؟؟ حسنا. كان صوته هادئا، عميقا، حزينا، وهو يرد على الرجل ويتجه نحوه، ليساعده في حمل أكياس ثقيلة يدخلها إلى متجره الصغير. ورمى الرجل قطعة نقود نحو الفتى هاتفا:
ـ شكرا يا سليم. اشتر رغيفا لعشائك، فربما لا تروقك تلك الأكلات التي يقدمونها لكم هنـا….
تلقى سليم القطعة بيده، ثم وضعها على منضدة المتجر، وهو يغادر هامسا: شكرا، لا أشعر بالجوع.
وعاد يواصل سيره في ظلمة الشارع بهدوء. توقف أمام بوابة حديدية، دفعها بطريقة خاصة ودخل عبر الممر، ثم ألقى نظرة على كل من في الداخل. بدا البناء كأنه مأوى للعجزة، رجال ونساء في آخر العمر، بعضهم ممدد في الأركان، وبعضهم جالس على المقاعد الخشبية القديمة. كانت إحدى العجائز تحاول النهوض معتمدة على عكازتها فدنا منها ومد يديه يساعدها على الوقوف هامسا:
ـ مهلا، دعيني أساعدك للوصول إلى المائدة يا سيدة حنين.
ابتسمت العجوز بامتنان، وأشارت برأسها بسعادة دون أن تنطق، فقادها سليم لتأخذ مكانها إلى جانب كل العجزة الذين راحوا يتحلقون حول مائدة العشاء المبكر. ومن باب جانبي، برزت امرأة قوية في أواخر العقد الرابع من عمرها. فهتفت به:
ـ سليم؟ وصلت في وقتك، تعال إلى هيا…
سار سليم نحو الغرفة الجانبية، فراحت المرأة تضع بين يديه أطباقا للطعام وهي تتكلم كثيرا:
ـ هيا يا سليم بسرعة، هؤلاء المساكين مثل الأطفال تماما، إذا لم تقدم لهم طعام العشاء في وقت مبكر فإنهم (…) ماذا تنتظر، هيا أسرع ضع الأطباق على المائدة، وعد لتقطيع شرائح الخبز (…) يا إلهي، كم هو صعب أن تدير مأوى للعجزة، إنهم يحتاجون كل شيئ، ولكنهم طيبون جدااا صحيح؟؟؟
ـ أه؟ نعم، صحيح. قال لمجاراتها فحسب.
ـ أوووه، لا أتخيل نفسي عجوزا أبدا، لاشك أن هذا صعب. أتراك ستعتني بي يا سليم إذا انتهى بي الأمر مثلهم؟
ـ أه؟ ربما… رد عليها في شرود كامل.
ـ سليم؟؟ لست على سجيتك هذا المساء، أين مرحك الشقي…
ـ أه لا لا.. لا شيئ. أظنني أشعر بالنعاس فحسب.
ـ نعاس؟ منذ هذا الوقت؟ هذا ليس من عادتك.
التحقت بهما خادمة عادية المظهر تحمل إناء طعام كبيرا يتصاعد منه البخار وهي تهمس :
ـ حساء الخضر جاهز يا سيدة مرام.
ـ جيد، هيا بنا إذن.
تذوقت السيدة مرام ما في الإناء، ثم حملت سلة شرائح الخبز وخرجت.
ولحق بها سليم والفتاة الخادمة فقدموا العشاء للعجزة والعجائز المتحلقين حول المائدة، وأكلوا معهم.
أكل سليم قليلا، ثم قام يغادر قائلا :
ـ سأنام، ليلة سعيدة.
ابتلعت السيدة مرام طعامها بصعوبة وهي تردد :
ـ هييي هييي، ومن سيهيئ أفرشة النوم لهؤلاء؟؟
ـ أه، يبدو أنني اليوم متعب قليـــ….
ـ لا عليك، أهيئها أنا.
نطقتها الخادمة، فراحت السيدة مرام تنظر إليها باندهاش، بينما غادر سليم نحو درج جانبي صاعدا نحو غرفته.
دفع باب الغرفة الصغيرة. فبدت في حالة فوضى تامة. مجلات ودفاتر مهملة على منضدة صغيرة، وحقيبة رياضية ملقاة في الركن وقد برزت منها ملابسه، وبعض أدوات الحمام، ولوحة أزهار جميلة تكاد تسقط من مكانها على الجدار.
تمدد سليم على سرير بسيط غير مرتب، وضع يديه تحت رأسه ونظر لأعلى في شرود ثم دس يده في جيب السترة وأخرج تلك الكرة الصغيرة الصفراء.
أمسكها بيده بقوة وتأملها في شرود، ثم راح يرمي الكرة نحو السقف ويمسكها عندما تهوي إليه. وشيئا فشيئا، تسلل التعب والنوم إلى عينيه، فأغمضهما. وعم الصمت والظلام كل ما حوله.

:: :: :: :: :: :: :: ::

تبددت بقايا الظلمة مع انتشار نور الصباح الباكر. وأمام مبنى حجري كبير تصاعد الدخان من فوهة بأعلاه، وقف سليم عند البوابة الصغيرة، يضم يديه إلى صدره، وينفخ في كفيه ليبعث فيهما بعض الدفء، حتى أطل من البوابة رجل كهل وهو يهتف: تفضل يا سليم…
ـ شكرا سيدي. قالها وهو يدنو من الرجل ويأخذ منه سلة كبيرة ملأى بخبز ساخن، ثم انطلق مبتعدا في نشاط.
قطع مسافة طويلة، عابرا من أمام المحلات التجارية التي بدأت تفتح أبوابها. صعد درجا حجريا عريضا، ومر بهدوء على الجسر القصير، ثم وقف يتأمل الشاطئ القريب.
كان هناك فريق من لاعبي التنس. 8 لاعبين يقفون على شكل دائرة واسعة، بألبستهم الرياضية الأنيقة، والمضارب بأيديهم. وهم يتبادلون كرة واحدة يصدها كل واحد نحو الأخر بقوة. وغير بعيد عنهم، سيارة كبيرة مميزة، مرتبطة بعربة خلفية تحوي مضارب وكرات وشباكا وأجهزة تدريب رياضي. وعلى جانب السيارة، طبع شعار مميز عبارة عن كرة تنس تنبعث منها شعلة نار تدرج لونها من الأصفر إلى الأحمر، وتحتها اسم: نادي فايربال الرياضي.
إلى جوار العربة الخلفية، وقف رجل شاب أنيق ينظر إلى اللاعبين وهو يتحدث عبر هاتف صغير :
ـ بالتأكيد يا سيدي، نمارس تداريبنا يوميا، وقد انتقلنا إلى المستوى: ج. وصمت قليلا ثم عاد يتابع كلامه:
ـ للأسف، يبدو أننا فقدناه، لن يتمكن من اللعب فكتفه الأيسر بحاجة لعملية جراحية غير مضمونة. لا لا، لدينا الوقت الكافي، وقد بدأنا فعلا في اختبار بعض اللاعبين. أتوقع أن يكون بديله جاهزا في الوقت المناسب. بالتأكيد سيدي، سنحاول، سنفعل، سنفعل.
ثم أنهى المكالمة، ورمى الهاتف الصغير داخل السيارة عبر النافذة، ثم اقترب من اللاعبين.
كان سليم يقترب بدوره، وينظر إلى تلك السيارة والشعار عليها بدهشة هامسا لنفسه:
ـ فايربال !! فريق الكرة النارية؟
ثم اقترب أكثر، وتأمل ذلك الرجل الأنيق الذي بدا كأنه المشرف على التداريب، وهو يقف عند طرف شبكة ممتدة بين عمودين مغروسين في الرمال. وقد غير اللاعبون الآن تشكيلتهم ليقف كل أربعة منهم في أحد جانبي الشبكة في وضع استعداد للإرسال.
رفع أحدهم يده راميا الكرة الصفراء لأعلى، ثم ارتفع بكامل جسمه ليسدد إرسالا قويا جدا. وهوت الكرة بسرعة نحو الرمال في الجانب الأخر، فارتمى أحد اللاعبين يصدها بقوة. غير أنها طارت بعيدا جدا…
وحرك مشرف التدريب رأسه في أسف وانزعاج. ثم أدار رأسه يتابع الكرة بعينيه. كان سليم على وشك المغادرة حين رأى الكرة تعلو ثم تهوي تماما نحوه. بدا وكأنها ستتجاوزه، فضم بيمناه سلة الخبز لصدره، وتراجع خطوات إلى الوراء.
(اللعنة … وكأن هذه الكرات الصفراء تنجذب نحوي). همس لنفسه ثم رفع يسراه وانتظر لحظات، وما إن هوت الكرة أكثر، حتى حرك يده يضربها بقوة براحة كفه.
وقطب المشرف حاجبيه وهو يتابع تلك الحركة، بينما اندفعت الكرة للأمام. لم تطر بقوة، وإنما سقطت على الرمال قريبا من الشبكة المنصوبة. ونظر اللاعبون لحظات إلى سليم، ثم عادوا إلى لعبهم دون مبالاة.
كانت سلة الخبز قد سقطت منه وتناثر ما فيها، بينما هو يمسك كفه ويتأوه هامسا:
ـ أووووووو، تبا ما هذه الكرة؟ إنها أثقل من المعتاد.
ومن مكانه، راقبه مشرف التدريب في ذهول وهو يهمس لنفسه:
ـ ضرب الكرة بقوة بيسراه ودون مضرب؟ من يكون هذا الفتى؟
وأخرج من جيبه مذكرة صغيرة، استل من طرفها قلما أصغر، ودون عليها كلمات سريعة.
ثم سار نحو سليم الذي انتبه من غفلته فجأة، فهمس: يا إلهي لقد تأخرت عن موعد الإفطار…
ثم راح يجمع الخبز المتناثر بسرعة، ويحمل السلة ثم يركض مبتعدا بسرعة، غير منتبه إلى مشرف التدريب الذي كان يهم بأن يناديه، لكنه اكتفى بأن همس:
ـ وسريع في الركض أيضا، يا لها من لياقة مميزة.

:: :: :: :: :: :: :: ::

دفع سليم باب الملجأ هاتفا: مرحبا…
ونظر إلى كل العجزة المتحلقين حول مائدة الفطور، ثم إلى السيدة مرام التي كانت واقفة تنظر إليه بغضب كبير:
ـ تعلم جيدا أن فطورنا يكون في تمام السابعة.
صمت سليم، ونقل نظره بسرعة إلى ساعة الحائط التي تجاوزت السابعة وعشرين دقيقة، ثم همس:
ـ أسف، سلكت طريق الشاطئ، وتأخرت قليلا.
ـ بل تأخرت كثيرا. ولماذا تسلك طريق الشاطئ مع أن بائع الخبز في وسط المدينة؟
اقتربت السيدة مرام تأخذ منه سلة الخبز وتضعها على المائدة، وانتبهت إلى حبات الرمال العالقة على الخبز فتساءلت: رمل؟ سليم؟؟؟
ـ أسف، لقد تعثرت وأوقعتها، أنا حقا آسف.
ـ قلت لك من قبل إنك مهمل، والآن تأكد لي ذلك بالفعل. لست فقط مهملا كالمشردين بل أنت سيئ كالأشرار.
ـ سيدة مرام؟ رد علي سبيل الاعتذار دون أن يدري ماذا سيقول.
ـ اذهب ونظف تلك الغرفة التي تشبه مخزنا قديما، ورتب كل أغراضك قبل أن تأتي للفطور.
ـ حاضر. غاب سليم، بينما راحت السيدة مرام تمسح الخبز بمنديل، وتقدمه للخادمة التي توزعه على مائدة العجزة.
وحركت السيدة مرام رأسها بأسف:
ـ لا أدري ماذا حل بهذا الولد؟ لم يكن هكذا من قبل.

:: :: :: :: :: :: :: ::

انتهى الفطور. وغابت السيدة مرام لحظة، ثم ظهرت من غرفة جانبية وقد ارتدت عباءة كبيرة، وهي تقول:
ـ وليد، ستبقى وحدك لتشرف على مواعيد الزيارة، أنا ذاهبة في مشوار مهم ولن أعود قبل الظهيرة. هل أعتمد عليك؟؟
ـ بالتأكيد. رد عليها. (أصبحت أشك في ذلك) همست لنفسها وهي تغادر.
مضى الوقت بسرعة، واقتربت مواعيد الزيارة في مأوى العجزة. كان سليم يساعد العجائز على الخروج للباحة والجلوس عند تلك الشجرة الكبيرة الملأى بحبات الليمون الصفراء، أو على الأرجوحة، أو المقاعد المنتشرة هناك.
قلب بين يديه دفترا سجلت معلومات على جدوله وقال:
ـ السيدة حسنى، لديك اليوم زيارة، ابنتك ستأتي إليك، هيا ابتسمي، بسمتك حلوة رغم أنك بلا أسنان.
ـ أههههههههههه.. ضحكت بعض العجائز بخفة روح.
ـ حسنا، من لديه زيارات أيضا، آآآه تلك السيدة القوية، لا أدري لم تعيش معنا هنا، فهي لم تهرم بعد.. إنها أقوى مني. لا لا لا أريد أن يحزن أي منكم، سوف تحظون جميعكم بزيارات كثيرة هذا الأسبوع.
وانشغل العجزة والعجائز بالحديث مع بعضهم، بينما اقترب سليم من الشجرة الكبيرة. اتكأ عليها، ثم انحنى يأخذ ليمونة صفراء سقطت على الأرض، وراح يلهو بها بين يديه في شرود..
إحساس غريب يعاوده. ذكرى غامقة تختبئ في مكان ما. هذه الليمونة الصفراء.. تلك الكرة الصفراء، بل الكرات الصفراء التي يبدو أنه يلاحظها حيثما ذهب.
أتراها تثير انتباهه لسبب ما؟ أتراها تنجذب إليه؟ أي حماس غامض هذا الذي أشعر به في أعماق صدري.

:: :: :: :: :: :: :: ::

طوال اليوم، ظل سليم ينظم مواعيد الزيارة بملجأ العجزة، ويساعد خادمة المطبخ في تقديم الوجبات لمن لم يحظ بأي زيارة أو هدية. وبكلمات رقيقة حينا وطائشة أحيانا، كان يحاول التخفيف عن أولئك الذي يترك هذا الموعد الأسبوعي في عيونهم دموعا صامتة.
وما إن حل المساء بطيئا، ولاحت له السيدة مرام قرب البوابة حتى سارع يلقي عليها التحية ويترك لها كل المهام ليغادر المكان متجها نحو صخور الشاطئ. كم تكون ساحرة عندما تتكسر عليها الأمواج الصاخبة، هناك فقط يجد راحة غريبة لم يفهمها.
سار بهدوء على رصيف الشارع النازل نحو الشاطئ، وتجاوز الجسر القصير والدرج الحجري، ثم…
عبر أمام مقهى كبير، فأثار انتباهه صفير وتصفيق وضجة جمهور عالية تصدر عن مكبرات صوت جهاز تلفاز داخل المكان.
ضجة متواصلة تلاها صوت مميز، ذلك الصوت المميز… رصين، واثق، وفيه مزيج من اللباقة والصرامة وهو يهتف بلكنة فرنسية أصيلة silence s’il vous plait هكذا، وكأن العبارة ترددت في داخل ذهن سليم وتسربت إلى كل عروقه، فتجمد في مكانه لوهلة.. silence s’il vous plait بصيغتها الأجنبية تلك، تأكد أنه سمعها من قبل. لطالما سمعها ولكن أين وكيف ومتى؟؟
لم يسمعها فقط، بل ويفهم معناها جيدا. silence s’il vous plait.. هدوء من فضلكــــم !!!
بكامل الصرامة والوثوق، كما ينطقها حكم مباراة التنس في الدوري الشهير (رولان غاروس) عندما يعلو صخب الجماهير المشجعة. يجب أن يعم الصمت أرجاء الملعب حتى يتمكن الحكام واللاعبون من التركيز على الكرة. الكرة الصفراء الصغيرة.. مرة أخرى !!
ألغى من ذهنه جولة الشاطئ، ودلف إلى المقهى، فاتخذ لنفسه كرسيا في الركن البعيد عن كل الرواد، عند شجيرة ياسمين مزهرة.
اتكأ على الجدار خلفه وشبك أصابع يديه وراء رأسه، ثم راح يتابع المباراة على التلفاز المعلق بالجدار المقابل له. وحين أخرجه من شروده نادل المقهى الشاب وهو يقف إلى جواره متظاهرا بمسح الطاولة مجددا، نظر إليه بسرعة وقال:
ـ تنح تنح قليلا، أنت تحجب عني المباراة، أريد عصير ليمون.
ابتعد النادل وعاد سليم مركزا على المباراة، حتى أنه لم ينتبه للنادل عندما عاد مع كوب العصير. ولا لذاك الرجل الأنيق الذي وقف قبالته للحظة وهو يزيح نظارته عن عينيه قائلا: وأخيرا وجدتك يا فتى.