كـنـاريـا : عالم من الإثـارة والجسارة والخيال !

رواية مسلسل أنيمي من أربعة مواسم حافلة بالتشويق

ARANIME / BING AI ©

بعد أن أنهى تدريباته الأولية وامتلك مهارته الخاصة، ينطلق الفتى «كين» مع رفاقه في رحلة مغامرات مثيرة عبر جزر كناريا، ساعيا للنجاح في اختبار الحراس المحترفين دون أن يدرك أن الأحداث ستأخذه إلى مجرى في غاية الخطورة والغموض.

أول ذكرى : حكاية الصبي والوشق

تـلاشـى سكون الصباح الباكر في مملكة (كـنـاريا) على وقع صوت هادر ينبعث رتيبا من قطار بخاري مهيب، مضى يشق طريقه بثبات على سكـته الممتدة بيـن الأحراش والتلال المعشبة، مترنحا مثل ثعبان معدني عملاق يعود إلى وكره فـجرا وقد أثقلته الفرائس التي التهمها طوال الليل.
كانت المدخنة المزدوجة التي تبرز كأنياب وحيد قرن من مقدمة القطار تنفث خيوط دخان أبيض تتراقص متموجة فوق عرباته السبع المصفحة قبل أن تتلاشى تماما على مشارف العربتين الأخيرتين المكشوفتين، اللتين تحمّلان عادة بالأمتعة والأحصنة.
في الأيام الخوالي، كان أهالي (كـنـاريـا) ومعظمهم من ساكني البلدات الزراعية الصغيرة، يعتمدون على الخيول في ترحالهم عبر السهول المنبسطة ويمتطون حيوانات (اللامـا) في مسالك الجبال الوعرة، وتدفع الرياح مراكبهم الشراعية عندما يغامرون بالتنقل من جزيرة إلى أخرى. ثم تسارعت دورة الحياة منذ أن أحكمت سلالـة (إيـنـاروز) سيطرتها على البلاد بعدما ضمنت ولاء النبلاء والفرسان، فراحت تشيد حضارة زاهرة مزجت بين قديم المعارف وجديد المكـتـشفات، واعدة أن يكون المستقبل دائما أفضل من الماضي.
داخل إحدى عربات ركاب الدرجة الثالثة، أسند الفتى الوحيد الذي بدا صاحيا في هذا الوقت المبكر، ذقنه إلى راحة يده اليمنى وعيناه تتابعان المشاهد المتلاحقة عبر زجاج النافذة السميكة في شـرود.
لمح حيوانا بريا يعتلي صخرة سوداء عظيمة، فعادت به الذكرى في رمشة عين إلى حادث لا يستطيع أن ينساه. وعلى عكس شروق اليوم، كانت الشمس آنذاك تشارف على المغيب، والخراف التي يسرحها في مراعي بلدته الريفية الخضراء تتجمع في طريق العودة إلى مزرعة العائلة.
ـ ترى أين أنت أيـها الـماكـر؟ سيحل الظلام قريبا ولم تظهر بعـد !
قالها الفتى هامسا لنفسه باستغراب، وهو يدسّ منظاره المقرّب في جرابه بعدما فحص المكان حواليه دون أن يجد أثرا لخصمه. وثب إلى صخرة أخرى ومنها إلى الأرض المعشبة، ومشى وراء أغنامه يحث الحُملان المتخلفة عن أمهاتها على مواصلة المسيـر. كان الخصم الذي يبحث عنه حيوان (وشق) عسلي الفراء لم يشتد عوده بعد، أصغر من نـمـر جبلي وأشبه بهـرّ وحشي اعتاد أن يخوض معه كل مساء جولة ركض ومناورة، يستمتعان بها معا وكأنهما صديقان يلاعبان بعضهما، وليسا راعي غـنم صغيـرا يصدّ وشقـا مفترسا يحاول الحصول على شاة سميـنة لعشائه.
خفتت ضجة القطيع الرائح، فاستشعـر الفتى حركة غير عادية وصوت زمجرة يصدر من أجمة أدغال قريبة. دار حولها في حذر فرأى وشقه هناك عالقا في فخ معدني أطبقت أسنانه الحادة على ساقه بعنف مؤلـم.
ـ يا إلهي ! ما الذي فعلوه بـك هذه المرة؟!
تجمد الفتى في مكانه مذهولا لوهلة، ثم ألقى جرابه واندفع نحو الحيوان التعيس غير مبال بالعواقب، وقد قـرر أن يفعل أي شيئ ليخلصه مما يعانيه. لم تكـن لدى الوشق طاقة للمقاومة بعدما بات يترنح في مكانه منذ الليلة الماضية، فاكتفى بمراقبة رفيقه البشري وفي عينيه نظرة منكسرة توحي أنه على وشك الانهيار. جرب الفتى كل طريقة يعرفها لإرخـاء كمّاشة الفخ المتين دونما جدوى. حاول بشتى الوسائل ومن مختلف الوضعيات وكاد ينجح لولا أنه ارتكب غلطة فادحة. ففي لحظة سهـو، انفلت الفك المعدني من جديد ليطبق هذه المرة على يده اليسرى، بمنتهى القسوة.

:: :: :: :: :: :: :: ::

على بعد ميلين من مراعي الجبال، انتفضت الطيور التي كانت تأوي إلى أوكارها في شجرة عـرعار عملاقة عند مدخل المزرعة العائلية، وكأنما بلغها صدى الصرخة المريعة التي ترددت في الجـوار. فتـركت سيدة المنزل وخادماتها ما كان يشغلهن ورحن ينظرن باستغراب إلى الأغنام التي وصلت لـتـوّها مندفعة نحو حظائرها بلا نظام.
تعلقت عيون السيدة بالبوابة المفتوحة دون أن تشف ملامحها عما يجيش في أعماقها من مشاعـر، فرأت الفتى يتقدم ببطئ وسط العتمة منكس الرأس ممزق الملابس كمن يعود خاسرا من معركة، وقد ضم إلى صدره حيوانا بريا ثقيل الوزن، بدا في حالة مزرية بساق محطمة سالت دمائها بغزارة وبرزت منها شظايا عظم تكسّـر بمنتهى القسوة.
كان الفتى قد مزق قميصه واستعمل شرائط ثوبه لتكميم فم الحيوان المفترس وربط قوائمه السليمة للحدّ من حركته. ومن شدة الإصابة التي تعرض لها، لـم يكن غريبا أن يرتخي الوشق الجريح منهكـا يعاني مزيجا من الألم والخوف واليأس.
أمام مدخل المنزل الحجري المشيد وسط المزرعة، يوجد هيكل من الخشب القديم على شكل سقيفة هرمية تظلل مائدة مستديـرة تحيط بها مقاعد للجلوس. دنا منها الفتى ليضع وشقه الجريح في مكان آمن، وينهار على المقعد القريب غيـر ملتفت إلى ما تقوله السيدة التي لحقت به تستفسـر عما جرى عاتبة وغاضبة.
من الجانب الشرقي حيث توجد مخازن غلال المزرعة، رأى والدَه يقترب بمشيته المهيبة المعتادة، وإلى جانبه رجل قصيـر بغيـض يسيـر خلفه حارسان من جنده. عـرف الفتى من يكون الزائـر، فلطالما رآه هنـا في مثل هذا الموعد ولـم يفهم يوما لماذا يهابـونه إلى هذا الحـدّ، ولماذا يدفعون له أسمن الخراف وأجـود الغلال التي يكدون طوال العام في زراعتها.
كان الرجل البغيض هو مبعوث النبيـل الحاكـم الذي يـزور الـمزارع كلما انتهى موسم الحصاد الصيفي، كي يستخلص من الرعاة والـمزارعين نصيب الحكومة أو (حق القصر الملكي) كما يسمونه، لإضفاء مزيد من التبجيل على عملية جباية الضرائب.
ـ «يعجبني تفانيك كثيرا يا سيد (أرسلان)». قال جابي الضرائب موجها خطابه للأب الماشي إلى جواره بكل احتـرام. «فلم تسبب لنا المتاعب يوما مثل بعض ناكري الجميل الذين يتهربون كلما حل موعد الدفع، مشتكيـن أن العام لم يكن ممطرا والمحصول لم يكن وفيـرا».
ـ الحق أن المحصول لا يكون وفيـرا دائما أيها السيد. ولكنني أبذل جهدي للوفاء بما علي للحكومة والقصـر الملكي، بكل امتنان.
ـ بالطبع ينبغي عليك أن تفعل سيد (أرسلان). ألا تضمن لكم حكومة مولانـا الملك حماية مزارعكم من العصابات المارقة وتؤمن تجارتكم من قطاع الطرق، وتزودكم بـرماد البـركـان الذي تسمدون به محاصيلكم !!
ـ بلى ! بلى ! ما تقوله صحيح أيها السيد. لا يمكننا أن ننكر هذا الفضل…
كان الرجلان قد بلغـا مائدة السقيفة الخشبية، عندما همس السيد (أرسلان)بعبارته المجاملة تلك، وألقى نظرة فاحصة على ابنه وقد هاله أن يراه في تلك الحال السيئة، فسأله متوجسا:
ـ (كـيـن) !؟ ما هذا الذي جلبته معك؟ هل كنت تعبث بالفخاخ !!
وكأنما انتبه إلى أنه رفع صوته أعلى مما ينبغي، فالتفت معتذرا لجابي الضرائب، وهو غيـر مضطر لذلك.
ـ المعذرة أيها السيد. هذا (كينيـرو) ابني الصغيـر الذي يرعى الغنم. ولكنه يوقع نفسه دائما في مـ……….
ـ ألم تعدني أنك لن تنصب تلك الفخاخ القاتلة مجددا !
قال الفتى بألم واضح مقاطعا والده وهو يخفي يده اليسرى في ثنايا ثوبه الممزق الذي اصطبغ بحمرة الدماء.
ـ «هذه الضواري تلتهم خرافنا يا (كـيـن)» قال الأب بصرامة. «وأظنني أفهمتك من قبل أننا سنفعل أي شيئ في سبيل حمايتها».
ـ «ولكنك وعدتني» ! همس الفتى بخيبة عميقة، ثم نقل نظره إلى جابي الضرائب وهو يطرح آخـر سؤال توقعه منه والده: «أليست الحماية دور الحكومة والنبـلاء الذين ندفع لهم»؟!
انتقى الرجل البغيض مقعدا حول المائدة الخشبية القديمة وجلس عليه في مقابلة (كـيـن) وجها لوجه مكشـرا عن أسنانه الصفراء بابتسامة مخيفة.
ـ يبدو شجاعا هذا الفتى، سيد (أرسلان) ! فلا تقس عليه كثيـرا من فضلك. أمممم !! ما الذي ستفعله بهذا النمر الصغيـر يا فتى؟ إنه نمر أليس كذلك؟
ـ «وشق» قال (كـيـن) بتأكيـد عصبي. «سـأعـالـج ساقه وأعيده إلى البـرية»…
ـ «هكذا إذن، لابد أنك فتى طيب رغم تهورك». قالها الرجل وهو يبسط مرفقيه على المائدة وينحني أكثر نحو (كيـن) ليحدق في عينيه عن قرب قبل أن يضيف: «ولذا ما رأيك أن أعدك ـ أنا هذه المرة ـ بأن الحكومة ستعالج هذا النمر الجـ…. ـ المعذرة ـ هذا الوشق الجـريح».
مـدّ جابي الضرائب البغيض يده لكي يلمس الحيوان الممدد على المائدة ويجس نبضه للتأكد أنه مازال على قيد الحياة، فأجفـله الوشق الذي انتفض فجأة وزمجر بشراسة مكتومة محاولا تحريك أطرافه رغم الألـم.
راقب (كـيـن) حركة الجابي بتوجس شديد واثقا أن الرجل الخبيث يكذب كما يتنفس، وأن كل ما يرجوه هو أن يموت هذا الوشق ليبيع فروه وأنيابه ونصال مخالبه وبلورات عينيه وكل ما يمكن أن يُشـرى من أعضائه الداخلية.
ـ لا ! هذا الوشق لي، ولن يأخذه مني أحــد.
لوهلة فقط، تأجج التحدي في نظرات (كـيـن) ثم أطفأته دموع كان يكابـر طوال الوقت لـمنعها من النـزول. لـم تنـزل لكنها ترقرقت في عينيـه بـلمعـة ألم وإبـاء يعرفها جابي الضرائب جيدا، فلطالـما رآها تضطرب في عيون المتخلفين عن السداد حيـن يشـرع جنوده في تعذيبـهـم.
ـ «وسنعالجك أنت أيضا». قال الجابي بتلميح أكثـر خـبثـا وهو يشيـر إلى يـد الفتى الـمندسّـة تحت ثوبه. «فهذه ليست كلها دماء الوشق، صحيح؟».
أثارت ملاحظة الرجل ارتياب السيد (أرسلان) فنظر مليـا إلى عيني ابنه ويديه وساقيـه وكامل جسمه. بدا له كل شيئ سليمـا باستثناء تلك الكـف التي يصـرّ الفتى على إخفائـها تحت لفافات لبـاسه الأرجوانـي.
ـ دعني أرى يدك اليسرى (كينيـرو) ! الآن !!
ضم الفتى يده أكثـر إلى جسمه، وقد غلبته دموعه أخيـرا فسالت غزيـرة على خديـه، وهو يعض شفته السفلى بقوة حتى يمنع نفسه من النحيب بصوت عـال. وحـيـن نطق في النهايـة عاد صوته ينضح بالتحدي:
ـ هذا الوشق لي، ولن يأخذه مني أحــــــد.
كان جنود مبعوث النبيل قد أنهـوا تحميل العربات بالضريبة السنوية المطلوبة، فوقف الجابي ينفض الغبـار عن قفطانه المطرز بخيوط ذهبية اللون، ويوجه بخبثه نصيحة أخيـرة لـمضيـفه:
ـ لديك فتى متمرد هنا سيد (أرسلان). أنصحك أن تكبح جماحه بحكمة قبل أن يكبـر ليجد لنفسه مكانا في سفـوح الجبل الأسود.
تلك الليلة بكـى (كيـن) كـثـيـرا، من الألـم والخوف والقـهـر. أشفقت عليه سيدة البيت ـ وهي زوجة أبيـه ـ فضمدت جـراح يده دون جـراح قلبه. وسهـر السيد (أرسلان) جنب فراشـه ليشـرح له ما يجهله عن هذا العالم.
ـ «هناك حكومة تدبر شئـون هذه البلاد» قال الأب لابنه. «وجيـش وحـرس وجباة ضرائب. وعندما يريد هؤلاء شيئـا، لا يستطيع ابن مـزارع بسيط أن يقول (لا) أو يقف في وجههم إلا إذا كان مستـعدا لدفع الثمن».
ـ لا فــرق بيننا وبيـن الخـراف إذن !
قال الفتى وقد سرحت عيناه بعيدا في السمـاء الصافية المرصعة بالنجوم حيث كان الدب الأكبـر قد غـيَـر موقعه معلنا عن قدوم فصل جديد.

:: :: :: :: :: :: :: ::